تعرف على مدينتي تارودانت

Taroudant 8

 

 


 تارودانت خلال العصر الحديث

في ظل الدولة السعدية

بدخول تارودانت في بيعة السعديين ( 920هـ / 1515م) ستدخل عصرها الذهبي، حيث سرعان ما أصبحت أولى عواصمهم، قبل انتقالهم إلى مراكش (930هـ/ 1524م). وقد قام الأمير محمد الشيخ منذ هذا التاريخ بتحصين المدينة، وجدد معالمها، وزودها بعدد من المباني الفخمة، فأصبحت من حينها تنسب إليه، وعرفت خلال هذا العصر « بالحضرة المحمدية » .ا

وعلى عكس ما جرت عليه عادة المؤرخين من قبل، فإن اسم وأخبار المحمدية ستتردد كثيرا في مؤلفات هذا العصر. وهو أمر يعكس بجلاء مدى أهمية الأدوار التي أصبحت تضطلع بها المحمدية خلال عصر الشرفاء السعديين من جهة، ومدى ارتباط السعديين وعنايتهم الكبيرة بأولى عواصمهم ومنبت دولتهم.ا

تعددت أدوار تارودانت أيام السعديين، واحتلت مكان الريادة بين نظيراتها من مدن المغرب العتيقة على عدد كبير من المستويات. فقد اتخذها السعديون عاصمة في بداية دولتهم، وقاعدة محصنة لاستجماع قواتهم، وإمكانيات القبائل المبايعة لهم، قصد مواجهة الاحتلال الإيبيري لسواحل سوس والمغرب عامة.ا

وعرفت الحياة الاقتصادية بالمدينة انتعاشا لم يسبق له نظير، فقد اهتم السعديون بالسيطرة على طرق التجارة الصحراوية ومراقبتها، عبر تحويلها نحو توات، تافيلالت، وبصفة خاصة نحو تارودانت. حيث أصبحت هذه الأخيرة أهم المراكز المتحكمة في طرق التجارة القافلية، فقصدها التجار المسلمون والأوربيون، وخاصة منهم الإنجليز، واشتهرت ببضائعها المتنوعة: كالأواني النحاسية،و الأنسجة الصوفية، والمصنوعات الجلدية، وبصفة خاصة السكر الذي لم يكن بإمكان القصر الإنجليزي الاستغناء عنه.ا

كان رواج التجارة عاملا ساعد على ازدهار الصناعات الحرفية المختلفة، ومن أشهرها صناعة النسيج التي كانت تنتج الأنسجة الصوفية والحريرية، والصناعات المعدنية المختلفة والتي اشتهرت منها على الخصوص صناعة الأواني النحاسية والبرونزية. وتعتبر صناعة السكر أهم وأشهر الصناعات التي عرفتها تارودانت، والمغرب عامة خلال هذا العصر، وقد تركزت أهم معاملها على مشارف المدينة بمنطقتي أولاد مسعود وتازمورت، وقد أشار تقرير مؤرخ ب 25 أكتوبر 1598 - وهو لأحد الجواسيس الإنجليز الذين زاروا المدينة- إلى أن السلطان المنصور كان يجني من وراء هذه الصناعة أزيد من 800.000 مثقال في السنة.ا

لقد انعكس الرخاء الاقتصادي على الأوضاع العمرانية للمدينة، وجاء لينضاف إلى تلك العناية الخاصة التي أولاها السعديون إياها، فشهدت حركة تعمير واسعة النطاق وتوافر لها من البنايات الفخمة، والمنشآت الضخمة، ما جعلها تفوق العواصم التقليدية الأخرى (فاس ومراكش) رونقا وبهاء. بل ونافستهما على مستوى ازدهار الحركة العلمية والثقافية، فسرعان ما تحول الجامع الكبير، إلى إحدى أهم جامعات المغرب في هذا العصر وأمه الطلبة من مختلف الآفاق، كما انتصب للتدريس فيه ثلة من كبار علماء المغرب خلال القرن 16م ونذكر من جملتهم : سعيد بن علي الهوزالي، عبد الرحمن بن عمرو البعقيلي، عيسى بن عبد الرحمن السكتاني، عبد الرحمن بن محمد بن الوقاد التلمساني، يحيى بن عبد الله الحاحي... وقائمة أساتذة هذا الجامع أحق بأن يخصص لها مصنف خاص في عدة مجلدات.ا

إذا كان القرن 10هـ/16م قد حمل في طياته معالم الازدهار والرخاء، فإن تارودانت ستشهد مع مطلع القرن الموالي إحدى أكبر نكباتها، فقد ضرب المغرب طاعون جارف كان السلطان أحمد المنصور نفسه أحد ضحاياه سنة ( 1012هـ/ 1603م). وكان وقع هذا الطاعون وخيما في تارودانت، حيث لم يزل يضرب المدينة سنة بعد أخرى مدة اثني عشر عاما، حتى استولى عليها الخراب وهجرها جل سكانها. وقد كان هذا الطاعون أحد الأسباب التي ساهمت في تفكك المخزن السعدي، حيث سرعان ما انهار ذلك الصرح العظيم الذي بناه أحمد المنصور، وتقاتل أبناؤه على العرش، فانقسم المغرب إلى مملكتي فاس ومراكش. وظلت تارودانت تحتفظ بمكانة متميزة داخل مملكة مراكش، فإليها كان السلطان زيدان بن المنصور يلجأ، وبها يحتمي، وفيها يستجمع قواه كلما داهمه خطر أو هدده منافس، إلى أن انتهى حكم الشرفاء السعديين لتدخل المدينة من جديد مرحلة من الاستقلال.ا

تارودانت ومرحلة التجزئة 

ظلت تارودانت وفية لبيعة السلطان زيدان ابن أحمد المنصور، بل ظلت ملاذه وملجأه كلما ألم به خطر أو هدده منافس: فبتارودانت استجمع قواه يوم عاد خائبا من عند أتراك الجزائر سنة 1604م، وإليها تراجع بعد هزيمته أمام قوات ابن أخيه عبد الله بن المأمون بمراكش سنة 1607م، وفيها استأمن على نسائه وعياله و كل ثروته، يوم أخرجه الثائر ابن أبي محلى من عرشه بالقصر البديع بمراكش (1022هـ/ 1613م). بل إن سكان تارودانت والقبائل المحيطة بهم هم الذين تجندوا وراء الشيخ أبي زكريا يحيى الحاحي يوم هزم الثائر المذكور بمعركة جليز، وأرجع زيدان إلى عرشه 1613م. غير أن إخلال زيدان بشروط اتفاقه مع الشيخ يحيى الحاحي، والذي على أساسه هب لنصرته، جعل هذا الأخير يخلع بيعته ويخرج من طاعته، فأعلن نفسه أميرا على تارودانت وما يحيط بها. وهكذا تأسست إمارة الحاحيين بتارودانت فيما بين: (1023_1039هـ/ 1613- 1629م)، وقد ظل مؤسسها يحيى بن عبد الله يحاول توسيع نفوذه، على حساب زيدان بمراكش وأبي حسون السملالي (بودميعة) بإليغ، إلى أن توفي سنة : (1035هـ/ 1626م)، بعدما عرفت الإمارة في عهده استقرارا ورخاء، وحركة علمية نشيطة. ولا عجب، فيحيى هذا فقيه محدث، وعالم مشارك، وقطب صوفي مشهود له ولآله بالولاية، هب للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وسعى إلى إجراء الأمور على منهجها الشرعي، وفق ما تمليه عليه مكانته العلمية، و طبقا لما يقتضيه واجب العلماء تجاه الأمة.ا

ظل أبو حسون السملالي -أمير إليغ - يتحين الفرص للسيطرة على تارودانت، لكن قوة ورباطة جأش الشيخ يحيى قامت دائما حائلا بينه وبين مراده هذا. وهكذا كان عليه أن ينتظر وفاة يحيى ليخلو له الجو ويحقق مبتغاه، فقد دخلت تارودانت تحت سيطرته منذ (1039هـ/ 1629م)، وعانى سكانها كثيرا من جور واعتساف ولاته وخلفائه، إلى أن قضى المولى الرشيد العلوي على إمارتهم: عندما شتت جموعهم وهدم عاصمتهم إليغ سنة (1081هـ/ 1670م). وكان قبل ذلك قد دخل تارودانت في نفس السنة وأخضعها، لتدخل منذ ذلك التاريخ تحت نفوذ الدولة العلوية.ا

تارودانت في ظل الدولة العلوية

منذ دخولها تحت طاعة العلويين اتخذها هؤلاء قاعدة للسوس، ودارا ومستقرا لخليفة السلطان عليه. ولم يكن يتولى هذا المنصب إلا أفراد الأسرة العلوية من إخوة وأبناء السلاطين. ونظرا لما كانت توفره المدينة من موارد اقتصادية مهمة: تجارية، فلاحية وحرفية، وكذا نظرا لموقعها الإستراتيجي وسط سهل سوس المحصن بسلسلتي الأطلسين الكبير والصغير، فإن هذا الوضع غالبا ما كان يغري هؤلاء بالاستقلال عن نفوذ الدولة المركزية والدعوة لأنفسهم.ا

ففي سنة ( 1096هـ/ 1685م ) بلغ السلطان المولى إسماعيل أن أخاه المولى الحران، وابن أخيه المولى أحمد بن محرز دخلا قصبة تارودانت واستحوذا على إقليم السوس الغني. فزحف السلطان بجيشه إليهما وحاصر المدينة إلى أن قضى على هذه الثورة بعد حروب طاحنة، ودمار شامل سنة ( 1098هـ/1687م ).ا

تولى المولى محمد العالم أمر تارودانت نيابة عن أبيه المولى إسماعيل، وقد عادت المدينة في عهده إلى ما كانت عليه من الاستقرار، ونشطت بها كراسي العلم وحلقات الأدب، وتحول مجلس هذا الأمير إلى ناد أدبي، انعقدت فيه المناظرات بين شعراء المدينة ومن كان يفد عليهم من شعراء العاصمة مكناس، وفاس وغيرها من كبريات حواضر المغرب. لكن هذا الأمير مافتئ بدوره أن ثار على أبيه ودعا لنفسه سنة ( 1114هـ/ 1702م)، فبعث المولى إسماعيل ولده المولى زيدان لحصار أخيه بتارودانت إلى أن تمكن من اقتحامها (في صفر من سنة 1116هـ ) بعد ثلاث سنوات من الحروب، وقد لحقت بعلماء المدينة وأعيانها محنة كبيرة من جراء التفافهم حول الأمير العالم وتأييده .ا

وقد عين المولى إسماعيل ابنه المولى عبد الملك على المدينة سنة (1134هـ/ 1721م) واستمر بها إلى ما بعد وفاة والده، حين عزل عبيد البخاري أخاه أحمد الذهبي، وبايعوه وهو على ولاية تارودانت سنة: (1141هـ / 1728م ).ا

وقد استمرت أوضاع المدينة مضطربة باضطراب أوضاع المغرب- بعد وفاة المولى إسماعيل- إلى دخلها المولى محمد بن عبد الله (1169هـ / 1756م) عندما غزا السوس، وجعلها مقرا للحامية. فعرفت المدينة في عهده استقرارا، وعين عليها من يثق بهم من آل بيته، ومنهم ابنه المولى عبد السلام سنة ( 1199هـ/ 1785م).ا

ظلت تارودانت خلال هذا العهد كذلك مستقرا للقواد والباشوات المخزنيين المعينين على سوس، لكنها- مع ذلك - فقدت الكثير من أدوارها ومن رونقها بفعل ما شهدته من حروب وصراعات حادة، خاصة خلال القرنين : ( 17 و 18م )، وهو ما كان سببا في انهيار الأسس التي انبنى عليها رخاؤها الاقتصادي، ومنها بصفة خاصة صناعة السكر. كما أن تحول الطرق التجارية، واستقطاب الأوربيين لتجارة السودان نحو المراكز التي أقاموها بسواحل إفريقيا الغربية عند استعمارها، ساهم في توقف القوافل التجارية التي كانت ترد نحو تارودانت. منذ هذا التاريخ ظلت ثروة تارودانت منحصرة في نشاطها الفلاحي، والذي بدأ يتركز تدريجيا حول شجرة الزيتون، حيث أصبحت تشكل عصب ثروة سكان المدينة. وإلى جانب إنتاج زيت الزيتون والمتاجرة فيها، لم يفقد حرفيو المدينة خبراتهم الصناعية الضاربة في القدم، وخاصة في مجال صناعتي النسيج والجلود، رغم المنافسة الحادة التي بدأت تعرفها الصناعتان من جرّاء تدفق المنتجات الصناعية الأوربية .ا

ومن حسن الحظ أن حفظ لنا العلامة المختار السوسي، في رحلته الرابعة من موسوعته "خلال جزولة"، قائمة بأسماء القواد المخزنيين الذين تعاقبوا على حكم المدينة إلى حين سقوطها تحت نفوذ سلطات الحماية الفرنسية. ونذكر من ضمن هؤلاء: القائد محمد بن يحيا أغناج والذي بقي بالمدينة إلى حدود ( 1236هـ/ 1821م)، ثم القائد حمّاد بومهدي الهواري والذي امتد نفوذه بسوس من تارودانت وأكادير إلى سكتانة وواد نون، وقد استمر في الحكم إلى أن سجنه المخزن فيما بعد ( 1264م/ 1848م ). ثم توالت على المدينة بعد هذا التاريخ سلسلة من القواد كان أشهرهم: الباشا محمد بن بوشتا ابن البغدادي، الذي اشتهر فيما بعد بفاس، والباشا حمو الشهير، الذي أزاحه عن مكناس إليها الصدر الأعظم أحمد بن موسى، وكانت وفاته بها سنة (1318هـ/ 1900م). وقد ثار بها الباشا الكَابَّا على نفوذ حيدة بن مايس، واستمر في حكمها إلى أن قتل، بعد استيلاء أحمد الهيبة على تارودانت. ثم ما لبثت المدينة أن عادت إلى نفوذ آل حيدة الموالين للفرنسيين، بعد انهزام الهيبة أمام قوات الفرنسيين، التي يتقدمها التهامي الكلاوي سنة (1331هـ/ 1913م).ا

أمضت المدينة سنوات عصيبة تحت نفوذ ضباط الشؤون الأهلية الفرنسيين، الذين كانوا يمثلون سلطات الحماية الفرنسية. وقد تبلور في أوساط شباب تارودانت - منذ الأربعينات - وعي سياسي مرهف، على يد وطنيين من أمثال القاضي سيدي رشيد المصلوت، جعلهم ينخرطون في صفوف حزب الاستقلال. ومع بداية الخمسينيات دخلت بها الحركة الوطنية بالمدينة منعطفا حاسما، حيث تبنت خيار المقاومة المسلحة على يد قادة شبان وطنيين نذكر من ضمنهم : مولاي عبد الحفيظ الواثر، سي محمد بن إبراهيم برهان الدين، الحاج حسن اللودعي، مولاي رشيد السملالي... وقد انخرط جل هؤلاء في الحياة السياسية لما بعد الاستقلال، وناضلوا من أجل بناء المؤسسات الديمقراطية الحرة، وقدموا من أجل ذلك تضحيات جسام ساهمت في تعبيد الطريق التي ولج منها المغرب عهد التحول الديمقراطي الذي يعيشه في وقتنا الراهن.ا